لم تعلمني الحياةُ شيئًا!.. (البندقيَّة 2017)
مهند المعتبي
الثلاثاء أبريل 2, 2024في مطلع يونيو المشمس من عام 2017، شهر رمضان لعام 1438هـ، قرَّرتُ أن أمكثَ نحو أربعين يومًا في شمالِ إيطاليا، وتحديدًا في بلدةٍ تُدعى (سبيليمبيرقو)، لا أدري إن كُنتَ ستنطق الاسم بشكلٍ صحيحٍ من المحاولةِ الأولى! هي بلدةٌ صغيرةٌ في مقاطعة (بوردينوني) قد لا يتجاوز عددُ سكّانها عشرة آلاف نسمة، أنا الآن في اليوم العاشر، قرَّرتُ أن أنطلِقَ في أوّل نهاره الطويل الذي يقرُب من ثماني عشرةَ ساعة إلى مدينة فينيسيا أو كما تُسمَّى عربيًا (البندقيَّة)، ومن الطريف أنّني قديمًا حينما كنتُ أقرأ عنوان المسرحيّة الشهيرة لأديب الإنجليز الأعظم وليام شيكيسبير [ت: 1616م] (تاجر البندقيَّة) والتي ترجمها كثيرون؛ كمحمد عناني، وحسين بن أحمد أمين، وخليل مطران، كنتُ أظنُّه يقصدُ: تاجر الأسلحة! فالبندقيَّة هي السلاح! فإذا بأصل الكتاب (The Merchant of Venice)، وإذا هي فينيسيا الإيطاليّة! لا بأس، فقد مارستُ كثيرًا وبلَذَّةٍ مُدهشةٍ تصحيحَ التوقُّعات الأوليَّة، وأستمتعُ جدًا حينما أكتشفُ سذاجةً بريئةً وأقول: (أهاه! هكذا إذنْ). لن أستطرد حول شيكيسبير، يصرِّحُ القانونيُّ الكبيرُ عبدالرزّاق السنهوريُّ أنَّه لا يعلمُ (أحدًا نفَذَ إلى دقائق الحياةِ -بعد الأنبياء- أكثر من رجُلَين؛ المتنبّي وشيكيسبير)، كما في [أوراقه الشخصَّة، ص92]، لكنَّني حقًا لا أدري ما شأنُه بإيطاليا والطُّليان؟! فتاجر البندقيَّة مسرحيَّة شهيرةٌ كان يمكنُ أن يُغتالَ من اليهودِ بسببها، لكنَّه أيضًا صنعَ تحفةً إيطاليَّةً أخرى هي الأشهرُ والأكثرُ خلودًا في التاريخ؛ مسرحيَّة (روميو وجوليت) ألمْ يقتلْ بها قلوبًا ضعيفةً على الحُبِّ لا تقوى؟! وحتى صارتْ مدينةُ (فيرونا) مدينةَ الحُبّ التي يقصدُها سنويًا مئات الآف من السُّيَّاح!
لا تستهِنْ إذن بأدب العظماء، إنه يصنعُ ذاكرةً لا تموت!
توجَّهتُ إلى فينيسيا (البندقيَّة)، تبعدُ نحو ساعةٍ وبضعِ دقائق، وصلتُ أوَّل الظهيرةِ وركنتُ السيارة، بدأتُ أتجوَّلُ في أزقَّتها، أحاطني الضياعُ والتيهُ من كلّ جوانبها، أخرجُ من خوانقَ مائيَّةٍ لأدخلَ في أخرى، بيوتٌ ملوَّنةٌ وقديمة، قواربُ تمرُّ بجواركِ ليس فيها سوى قائدها، وقواربُ أخرى تعجّ بالضحك وإرسال التحايا (هاي، تشاو،…)، بدأ صيامي يحتضِرُ، روائح الباستا في كلّ مكانٍ، يومٌ مشمسٌ بصرامةٍ، شمسٌ لا يخفّفُ جِدّيتَها إلا نسماتُ الهواء العليلةِ في الظلال!
أتنقَّلُ في أحياء البندقيَّة، من (سان ماركو) وساحة قدّيسها بطرس وكنيستها الأشهر إلى (سان بولو) وحيويَّته التي لا تنضب.. شعرتُ بالإرهاقِ قليلاً، احتجتُ أن أستظلَّ لمدَّةِ ساعةٍ لأشاهِدَ الناس وأتأمَّلَ أحوالَهم.. لم أقعْ في حُبّ البندقيَّةِ أبدًا، لا أدري ما السبب، لكني كذلك لم أكرهها.. شعرتُ فيها بالحَيرة، وكأنني وأنا أمشي في أزقَّتها أركضُ بحثًا عن روحي المتشظيَّة على حوافِّ منازلهم، مدينةٌ غريبةٌ حقًا، يخرجُ الرجلُ من بيته ليركبَ (قارِبَه) لا سيَّارته، رأيتُ القنوات المائيَّة في بعض الأماكن؛ كأمستردام الهولنديّة، وأنسي الفرنسيّة، وحيٍّ في لندن يسمى (فينيسيا الصغرى)، لكنَّ فينيسيا الإيطاليَّة أشعرتني باغترابٍ حقيقيٍّ في وقتٍ وجيز!
تعرّضتُ في وقتٍ مبكِّر جدًا -أثناء المرحلة الثانوية- لهذه الجملة (علمتني الحياة)، فقرأتُ حينها كتابَ: (هكذا علمتني الحياة) لمصطفى السباعي، وجدتُه في مكتبة أخي الأكبر، وكانت أيضًا محاضرةُ البليغ علي بن عبد الخالق القرنيّ بالعنوان نفسه منتشرةً عبر شريط “الكاسيت”، سمعتُها أكثرَ من مرَّة، أتذكَّرُ أنَّه قال يومًا في أحد أشرطته ولا أذكرُ أين: (لكلّ زمانٍ مضى آيةٌ * وآيةُ هذا الزمانِ الشريطْ!) وكأنَّها مُعارضةٌ لقول أحمد شوقي: (لكلّ زمانٍ مضى آيةٌ * وآيةُ هذا الزمانِ الصُّحُفْ!)، ويكأنَّ آيات الزمان هذه قد ماتت في زمنِ السناب! ومنذ ذلك الحين وأنا أرى وأسمع هذه الجملة كثيرًا.. ثم حدثَ مع انفجار الثورة الشبكيّة أنْ صادفتُ هذه العبارةَ كثيرًا، في تويتر تحديدًا أُنشئَ لها “هاشتاق” بالعنوان نفسه #علمتني_الحياة!
هذا الاغترابُ الذي شعرتُ به في أزقَّة البندقيّة جعلني أميلُ للحياةِ مُعاتِبًا (وأنا المعتبيّ!)، وقلتُ لها بصوتٍ خافتٍ متهدِّج: (قد علَّمتِ -أيتُها الحياةُ- أناسًا دروسًا مجَّانيّةً وبخلتِ عليَّ بدرسٍ واحدٍ ولو مدفوعَ الثمن!)
كنتُ أتعجَّبُ أنّ جمهورَ المعبّرين عن مشاعرهم وآرائهم وأفكارهم في “هاشتاق” #علمتني_الحياة هُم عشرينيّون أو ثلاثينيُّون.. أيْ أنّهم في عُنفوان عمرهم ورَيْعانه، وشَرْخِ شبابهم وعَيْسانه، وليسوا ممن عركوا الحياة وعركتهم واختبروها واختبرتهم! (أرجوك لا تسألني ما العَيْسَان؟! فلقد نسيتُ معناه، حيثُ إنني حفظتُ قديمًا مقامةً أدبيّةً قصيرةً لأحد أدباء القرن السادس الهجريّ، استفتحها كاتبُها بقوله: “كنتُ في عُنفوان عمري وريعانه، وشَرْخِ شبابي وعَيْسانه”، فافهمها كرمًا من سياقها، ولقد أعجبني توظيفها هنا بالسجيّةِ من غير قصد، وإنما استطرتُ الآن في العيسان؛ عسى أن لا أُتّهمُ باستعمال وحشيّ الألفاظ في تدوينةٍ عابرة) 🙂
إن كنتُ قد تعلّمتُ من الحياةِ شيئًا، فلقد علمتني الحياةُ شيئًا واحدًا فقط.. نعم.. شيئًا واحدًا فقط؛ وهو أنها لم تعلّمني شيئًا حتى الآن! فأنا الآن في عمر الثالثة والثلاثين، وما زلتُ أتعلّم وأتأمّل.. وكثيرٌ مما تعلّمتُه من قبل هو مما لُقنتُه من غير تمحيص، أو نتاج تجربةٍ لم تكتمل نضجًا، أو كانت خُلاصةَ رأيٍ فطير، وليس مما جادت به عليّ الحياةُ بعد اجتهادٍ وتأمّل طويل! أعلمُ أنَّ الحياةَ أسهلُ وأيسرُ أن تُعاشَ بأخطائها وتجاربها من انتظار الرأي الصائب والطريقة الأمثل، الخطأ نفسُه درسٌ من دروس الحياة. أحبُّ أن أعيشها برأيٍ يحتملِ الخطأ، وبمرونةٍ قابلةٍ للتغيير من أنْ أؤطِّرَ عقلي بقناعاتٍ لحظيَّةٍ طارئة، وليدةِ عُمْرٍ بدأ الإزهار والإثمار، وأصرخُ: (علمتني الحياة…)، لأغلِقَ بعدها ملفّ المراجعات!
كثيرٌ مما قد تعلمنيه الحياةُ هذا العام قد تعلمني الحياةُ نفسُها العامَ القادمَ أنَّ الدرسَ السابقَ كان خطأً!
تجارب الكثير من الناس تخضع لأمزجتهم، لا لمعاييرَ ثابتة، وقوالب صالحة للجميع..!
نحن ظرفٌ للتجارِب، للمشاعر، للمواقف، لكلّ شيءٍ نعيشُه.
شاعرٌ يمدح الصداقة؛ لأنّه رأى من صديقٍ وفاءً، ثم يفاجِئُنا بأنْ يوصي بالإقلال من الصداقات وعدم الاعتماد عليها؛ لأنّ صديقًا آخر خَذَلَه!
أتفهَّمُ جدًا وأتقبَّلُ أن أقرأ أو أسمعَ لرجلٍ سبعينيٍّ أو ستّينيٍّ قد خبرَ الحياةَ وجالَدَها وتأمَّلها وقرأها بنفَسَ المتفلسف أن يكتبَ خلاصةَ تجاربه، وأن يقولَ بملءِ فيه: (علّمتني الحياة)، حينها أتأمّل كلامه مستفيدًا ومستشهِدًا ومتأمّلاً وأحيانًا ناقدًا لأنّ تجربته أنضجُ وأحكم، لكنّني أستكثِرُ حقًا على نفسي أوَّلاً وعلى أبناء جيلي -ونحن الجيل الذي عايش وواكبَ الانفجار المعلوماتي، والتغيّر الحياتيّ السريع- أن يعيشَ بحَدّيةِ التجاربِ المختزلَة قائلاً في كل موقفِ: (علمتني الحياة).
أنت تعلمُ يقينًا أنني لا أقصد سدّ باب الاستفادة من دروس الحياة، فأنا أمارس ذلك بشكلٍ دائم، وأحبّه وأتقبّله من أصدقائي، وآنسُ به جدًا، لكنَّك فهمتَ المغزى الذي أريدُ، لا تتوقّف عن التأمّل بحجةِ أنّك في شبابك المبكّر جدًا وصلتَ إلى قناعاتٍ حول قضاياك الكُبرى أو قضايا جيلك لتضعها في كبسولةٍ تتناولها ثم لا تستطيع إخراجها من بطنك، وتسميها (تعليمات الحياة)، أو تضعها في ملفّاتٍ وتغلقُ عليها بابَ درجك ثم ترمي المفتاح!
أبقِها في ملفَّاتٍ مفتوحة، لتعودَ إليها كلّما احتجتَ أن تتأملها، كلما نضجتَ أكثر، وكلما تقدّم بك العمر وأصبحتَ أكثر هدوءً واتزانًا.
إذا كنتُ أقرأ وأتأمَّلُ وأختبِرُ الحياة.. ثم أجد بعدَ عامين أو حتى بعدَ عامٍ واحدٍ أنّ عقلي هو عقلي، وتفكيري هو تفكيري، وأخلاقي هي أخلاقي، ونظرتي للحياة هي النظرة ذاتها.. فواحسرتاه على ساعات القراءة والتأمل!
غربتْ شمسُ البندقيَّة بعد نهارٍ طويل، هنا أعترفُ أنني لم أكملْ صومي ذلك اليوم، غلبتني رُخصةُ السفر ورجاء القضاء، شعرتُ حقًا بالوحشة والضَّجَر، الوقت خاطئٌ تمامًا، حتى إفطاري بعد عطشٍ شديدٍ كان على ماءٍ وعصيرٍ فقط وليته كان على قطعة بيتزا! ليتني بقيتُ في مسجدِ سبيليمبيرقو أقرأ كتابَ تفسير، أو أجالسُ مسلمًا إيطاليًا نتحدّثُ عن رمضان، لا أدري إن كنتُ ساعودُ للبندقيَّة مرَّةً أخرى أو لا.. لستُ أدري!
سبيليمبيرقو
12 يونيو 2017
هل قرأتَ هذه؟
إنَّ سَعْيَكم لشتَّى…!
لو نظرتَ – على سبيل المثال- في أحوال الناس في المطارات؛ لرأيتَ من الناسِ (سعيًا شتّى)، فكلٌّ يحملُ حقيبةَ سفر، لكنَّ المقاصدَ متفرِّقةٌ، فهذا مسافرٌ .....