عشرة أسبابٍ جعلتني أُدمِنُ القهوةَ الباردةَ، فقد أنقذتني من مآزق!
مهند المعتبي
الأحد يونيو 9, 2024
إذا كُنتَ تظنُّ أو تشعرُ أنَّ ما ستقرؤه في هذه العشريَّة ضربٌ من المبالغة، فأنصحك بعدم إكمال القراءة، أمَّا أنا فأقولُ مطمئنّاً: (نِعمَ الهبَّةُ هَبَّةُ القهوةِ المختصَّةِ عمومًا) أتذكُّر بدايةَ انتشارها؛ كيفَ كُنَّا نراها بفلاترِها وأدواتِ ترشيحها وأقماعها وأنواع محاصيلها أنواعًا من “الهياط”، في محاولةٍ لخلقِ تميُّزٍ مُتوهَّم، لكنّها لم تأخذْ وقتًا طويلاً حتى امتلأت الأحياء السكنيَّة بالمقاهي المختصَّة في كُلّ زواياها، فلم تعُدْ هبَّةً.. أضحَتْ هي الأصل!
ما خِلْتُ نفسي يومًا -ولا حتى في الخيال- أنْ أحتسي قهوةً باردةً، تصطَكُّ في جَنَباتِ الكوب حُبيبات الثلج مع كُلّ رشفة! لا أدري لماذا كنتُ أشعرُ بأنَّ هذا امتهانٌ حقيقيٌّ للقهوة، فالقهوة لا تُشرَبُ إلاَّ ساخنة.
ثم إنني لطالما كنتُ أسخرُ من ابنتي رِناد وهي تُحضِّرُ كوبها (البارد!) لتقرأَ الروايةَ اليابانيَّة (قبلَ أن تبرُدَ القهوة) لـ (توشيكازو كواغوشي) يا لَصُعوبةِ الاسم! فأقول لها: كيف تبرد قهوتك وهي أصلاً باردة؟! 😊
أرجوك لا تسألني عن الروايةِ، فأنا لا أعرفُ عنها شيئًا، ولم أقرأ أيَّ روايةٍ -فيما أذكر- تنتمي للأدب الياباني، حتى سيّدهم العجوز العدَّاء (هاروكي موراكامي) صاحب (كافكا على الشاطئ) لم أقرأ له عملاً روائيًا، لكنّني قرأتُ كتابَه الجميل، الذي هو جزءٌ من سيرته الذاتيّة، (ما أتحدّث عنه حين أتحدّث عن الجري).
أعرفُ أنَّ غالبَ الجيل الذي حلَّ ضيفًا على كوكب الأرضِ بعد امتلائه، الذي قدِمَ بعد الألفيّة الثالثة، لا يكادُ يشربُ إلاَّ قهوةً باردةً -لا سيما بنات حوَّاء-، أنا أقصدُ القهوةَ السوداء لا “السبانيش لاتيه” وأشباهه مما يُقدَّم في المقاهي، فتلك أشياء مختلفةٌ تمامًا ولو أضيفَ لها (بُنّ)!
تركتُ القهوةَ الحليبيَّة (الكورتادو) و(الفلات وايت) في سنة كورونا، لأسبابٍ تتعلّق بالحليبِ، فيندُر جدًا أن أشربها الآن.
يومًا ما خاتلتني ابنتي رِناد، وصنعتْ لي كُوبَ قهوةٍ بارد، ودخلتْ عليَّ المكتبة وقالت: (بابا، أرجوك، جرِّب.. لن تخسرَ شيئًا.. إنّها نفسُ قهوتِك تمامًا ولكنّها مضافٌ لها مكعّبات الثلج)! وَجمتُ قليلاً ثم قلتُ لها: (إنَّ رفضي لها تمامًا كرفض غُلاةِ الشاي حينما يُعرَض عليهم “الآيسد تي!”، ويـْحَكِ! وهل يُشرَب الشايُ عند عُشّاقه إلاّ حارًّا؟!)، ثم نظرتُ إليها والكوبُ في يديها فشعرتُ بغلبةِ طلبها على تصوّراتي، لقد قالتْ: “أرجوك!”.
لقد ارتشفتُها.. نعم، لقد قرأتَها بشكلٍ صحيح، لقد ارتشفتُ القهوةَ الباردةَ؛ رشفةً رشفةً حتى أتيتُ على آخرِ الكوب، وهي تسأل: كيف؟ وأنا أُجيبُ: (لا بأس بها.. لا بأسَ بها).
في اليوم التالي وجدتُ نفسي أبحثُ في اليوتيوب عن أفضل طريقةٍ لتحضير القهوةِ الباردة، وكيف أتقنُ “الريشيو” الخاصّ بها.. بعد أسبوع تمامًا، نسيتُ كيفَ كنتُ أحضِّرُ القهوةَ الحارَّة! أصبحتُ أتفنّنُ في تحضير الباردة، لقد وجدتُ ضالَّتي، لقد أنقذتني القهوةُ الباردةُ أخيرًا! لقد تغيّرَ البيتُ بأكمله فأصبحَ الثلجَ أهمّ ما يجبُ توفيرُه في المنزل!
منذ دخول عام 2024م لم أعُدْ أشرَب إلاّ (القهوة الباردة) فقط، لا أدري هل لبلوغ الأربعين عامًا أثرٌ في ذلك أم لا، الآن أُحدّثك كيف أنَّ إدمانَها الإيجابيّ أنقذني من مآزقَ كثيرة!
1- كنتُ منذ الطفولةِ -وما زلتُ- مُحِبًّا للمشروبات الباردة وأجدُ فيها انتعاشًا يُطفئُ لهيب جازان الذي لا ينتهي -صيفًا وخريفًا وربيعًا-، إن كنتَ لا تعرفَ الطقس في جازان، فالفصول في جازان فصلان فقط: صيفٌ لمدّة عشرة أشهر، وربيعٌ لمدّة شهرين -وهو شتاءُ القومِ الآخرين-، فلا يكادُ يمرُّ يومٌ إلا وتناولتُ مشروبًا باردًا -كالمشروبات الغازيّة أو البيرة المنكّهة أو العصيرات-، فحينما أردتُ مقاطعتها منذ وقتٍ طويلٍ لأسبابٍ صحيَّة بسبب السكّر المضاف والمرعب لم أفلح في إيجاد البدائل، لا تحدّثني عن مشروبات “الدايت”، فالعلقمُ عندي ألذّ منها!
وهكذا ظللتُ أبحثُ عن مشروبٍ صحيٍّ باردٍ، ينعِشُ ولا يضرّ، فوجدتُ القهوةَ الباردة خيرَ البدائل، وهي مع فائدتها وإنعاشها خاليةٌ من السعرات تمامًا. (مرحى!)
2- القهوةُ الخالصةُ المفلترة يمكنُ اعتبارها مشروبًا صحيًّا بامتياز، أو قُلْ مشروبًا مفيدًا، هي ليست سِحرًا كما تريد شركات القهوة أن تروّج لها، ربّما تفّاحةٌ خضراء أفيدُ منها بكثير، لكنّهم لن يحدّثونك عن فوائد التفّاحة الخضراء، سيحدّثونك فقط عن أنّ تناول ما لا يزيد عن أربعة أكوابٍ يوميًا سيقيك من الزهايمر! لا بأس، ما يهمّني هنا أنَّ تناول القهوة المفلترة باعتدالٍ، ولو أكثر من مرّة في اليوم، وقطعها قبلَ النوم بنحو 6 ساعات على الأقلّ، وعدم تجاوز الحدّ المسموح به من الكافيين، يجعلها مشروبًا مفيدًا، لا سيما قبلَ التمرين أو القراءة ونحو ذلك. إن كُنتَ كما كنتُ أقول سابقًا: (إنني أشربُ القهوة ولا تؤثّر فيَّ أو تمنعني من النوم)، فما زلتَ بعيدًا عن دروب المهتدين 🙂 احتجتُ وقتًا طويلاً حتى أستوعِبَ أنَّ (جودةَ النومِ) شيءٌ مختلفٌ تمامًا عمَّا يُسمَّى بالنوم!
3- أمارس (الصيام المتقطّع) من حينٍ لآخر، منذ سنوات، لقد أضافَ لي فوائدَ عظيمة، ولم أجد عونًا في فترات الصيام كالقهوةِ الباردة، فهي لا تقطع الصيام، وتُقهي عن الطعام، وتمدُّ بالطاقة.
4- لستُ من (حزب الشاي) وإن أحببتُ كثيرًا من (غلاة الشاي)، فغالبُهم أكثر تواضعًا وغير متكلّفين، لكنْ رَجَوْتُكَ لا تحدّثني عن (الشاي المرّ!)، إنه ليس دواءً أحتاجُه فأتجرّعه ولا أكاد أسيغُه، لا أكاد أشربُ الشاي أبدًا إلا أن أكون ضيفًا أو مُضيّفًا واقتضى الحالُ شربَ الشاي، حينها فقط أشربُه كما تعلّمتُه من أمّي، شاي بالنعناع والسكّر، أو بالحبق.. شاي لذيذ، فلا بأسَ حينها بما يُضاف إليه من سُكّرٍ إذا كان تناولي له مرَّةً في الشهر. لذلك لم أستطع أن أجعلَ الشاي أحدَ أصدقائي، القهوةُ تغلِبُ وتفوز!
5- أتناولُ أحيانًا بعضَ الأعشاب الساخنة (الشاي الأخضر، البابونج، الخزامي، النعناع) وبعض التوليفات، لا للتلذّذ والتذوّق، وإنما لفوائدها كاحتوائها على مضادّات الأكسدة، أو لمنافعها في تخفيف التوتر وتحسين جودة النوم وتحسين عمليّة الهضم.. أمَّا المزاج والروقان فلم أجده -بعد السنين- إلاّ في معاقرة كوب قهوةٍ بارد، حُضِّرَ جيّدًا.
6- وهنا مربطُ الفرسِ ورنَّة الجرس، حيثُ وجدتُ أنَّ القهوةَ الباردة أخفُّ على المعدة من القهوة الحارَّة، أخفّ بكثير، وحينما ناقشتُ عددًا من الأصدقاء حولَ هذا وجدتُهم يتفقون على ذلك. (لم أبحث في الأسباب)، لذلك لم أعد أجد ما كنتُ أجده أحيانًا في القهوة الحارَّة من حُموضةٍ ونحوها.
7- من إنقاذها لي من مآزقي أنَّني أشربُها دون الالتزام بـ (حلا) مصاحب لها -كما هي عادة أكثر الناس في المقاهي خصوصًا-، فأشربُها سادةً، وهذا خلّصني من متلازمة ارتفاع سُكّر الدم وهبوطه المفاجئ إذا صُحِبَتْ بالحلا، أو حين كنتُ أشرب المشروبات الباردة السكريّة!
فمع (القهوة الباردة) وحدَها استطعتُ أن أواصلَ قراءاتي الشخصيَّة، أو عملي في كتابة المذكّرات القانونيَّة بتركيزٍ عالٍ قد يستمرُّ نحوَ أربعِ ساعاتٍ بلا تثاوب! إنها جُرعة الكافيين النقيَّة التي لا يصاحبُها سُكَّرٌ يتلاعبُ بمزاجك بعد حين، و”إنسولين” يتدفَّقُ من بنكرياسك! سواءٌ أكان وقتَ شُربِها أثناء (الصيام المتقطّع) أو بين فترات الأكل. أتناول شوكولاته داكنة -فيها سكرٌ خفيف- ولكنْ قبل التمرين غالبًا، فأنا ضدّ الحرمان التامّ.
8- القهوة الباردة تحوَّلتْ إلى أقوى أسلحتي لتحسين جودة التمرين وأدائه في (الصالة الرياضيَّة)، فتناول كوبٍ باردٍ -مُحضَّرٍ جيدًا- قبل تمارين المقاومة بنحو 45 دقيقة يعطيني طاقةً وقوَّةً لأداءٍ أمثل، فأنت تعلمُ أنّ بعض الرياضيين يتناول “كافيين” قبل التمرين على هيئة مكمّلٍ قبل التمرين، والكرياتين بعده. أمَّا أنا فلا أتخلّف عن صنع كوبي بنفسي قبلَ التمرين، فأستمتعُ بانتعاشه مع كتابٍ لطيفٍ أو مع حديثٍ عذبٍ مع الأهل قبلَ الانطلاق للصالة، فأصِلُ للصالة الرياضيَّة والكافيين في أوجِ خدمتِه لي!
9- ذوقيّاً، إيحاءاتُ القهوة أصبحتْ أبينَ لي وأظهر في الطعم في القهوة الباردة -المحضّرة جيّدًا- أكثر من القهوة الحارّة، وإن كان آخرون -وبعضهم متخصّص- يقولون بعكس ذلك، أمّا أنا فأصبحتُ أتذوّق الفاكهيّة والعسليّة ونحوها بوضوح مع القهوة الباردة.
10- أخيرًا.. ساعدني تحضيرُ القهوة بنفسي على استشعار التركيز ووضع كُلِّ شيءٍ في موضعه بميزان، ومحاولة الإتقان والروقان والانضباط بشكلٍ يومي، أحضِّرُ كوبَ القهوةِ الباردةِ مرَّة أو مرَّتين في اليوم، أمارسُ نفس العمل في غاية الهدوء والإيقاع البطيء، يستغرقُ التحضيرَ نحو 7 دقائق، أي 15 دقيقةً في اليوم، هنا لا أشرحُ سرًّا أو أفكّ تعويذةً، فالغالبُ يعرفُ طرقَ التحضير، و(كُلّ امرئٍ في بيته باريستا)، ولكنني أخبرك كيف أتأمَّلُ أنا هذا المشهدَ بشكلٍ يوميٍّ، وكيف أنَّ إعدادَ قهوتي يوميًا يُلهِمُني أهميَّة الإتقان والانضباط والتركيز، فقد أصبحَ الأمرُ عندي أمتعَ من اليوقا لدى أهلها!
أذهبُ لركن القهوة؛ أحسبُ بدقَّةٍ كميَّةَ البنّ المراد طحنه -بعد اختيار المحصول؛ مجفَّفًا كان تجفيفًا هوائيًا أو لا هوائيٍّ أو مغسولاً- أطحنُه برقمٍ مُحدَّدٍ، أغلي الماء على درجةٍ محدَّدة (غالبًا 88 درجة)، أنظّف الفلتر الورقيّ، أضع الثلجَ محسوبًا بالوزن أو العدد، أعيدُ ضبط الميزان، أضعُ البن بعد طحنه بتؤدةٍ وخِفَّة، أبدأ الترشيحَ فأصبّ الماء أولاً بعينٍ تراقبُ الميزان لئلا أتجاوز (40 مل)، لغرض الترطيب والتنفيس! (Blooming)، ثم أصبُّ ما تبقى من الماء المحدَّد كميّتُه بحركةٍ موزنةٍ -ولو مع عقارب الساعة 😊 – إلى أن ينتهي التحضير، أرمي الفلتر بما حمل، أحرّك (السيرفر)، فيتراقصُ الثلج مع القهوة، أصبُّها في كوبٍ زجاجي.. أرتشفُها على مهل!
تِلكَ عشَرَةٌ ناقصة!
6 / 6/ 2024
هل قرأتَ هذه؟
لم تعلمني الحياةُ شيئًا!.. (البندقيَّة 2017)
هذا الاغترابُ الذي شعرتُ به في أزقَّة البندقيّة جعلني أميلُ للحياةِ مُعاتِبًا (وأنا المعتبيّ!)، وقلتُ لها بصوتٍ خافتٍ متهدِّج: (قد علَّمتِ -أيتُها الحياةُ- أناسًا دروسًا مجَّانيّةً وبخلتِ عليَّ بدرسٍ واحدٍ ولو مدفوعَ الثمن!)