ماذا فعلتَ بقلوبنا يا محمد؟! “أنا قادم أيها الضوء”.
مهند المعتبي
الأربعاء يناير 24, 2024[أكرهُ الأملَ الكاذب، هو أقسى من اليأس، ص127]
هل هذا كتابٌ في (يوميّات المرض) أو أنَّه حقًّا كتابٌ في (فلسفة الوجود والعدم)؟!
حينما يقتربُ الإنسانُ من الموت، ويدرك ذلك، تتغيّر لديه فيزياءُ الوقتُ وكيمياءُ الدماغ، فيكون أقربَ لإنسانيَّته، وأصدقَ في مشاعره، وأكثر تثمينًا لأيَّامه الباقيّة، إنّها الساعةُ الرمليّةُ على حدّ تشبيه صاحبنا.
كنتُ قد عزمتُ على أن أتوقّفَ نهائيًا عن قراءة الآلام، عن أدبِ المعاناة، عن مُذكّرات الظلم والأمراض والاحتضار، احتجتُ وقتًا حتى أتجاوزَ ألمَ (القوقعة) إذْ يقول المتقوقِع: «هل يُمكِنُ أن يكون الموتُ هديّةً؟!»، واكتئابَ (تزممارت) إذْ «ليس على هذه البسيطة مخلوقٌ أشدّ قسوةً وهمجيّة من الإنسان!… وإنَّ من الحجارة لما هو ألينُ من قلبِ ابنِ آدم!»، لم أقرأ (الموريتاني) -والحمدُ لله!- لكنني تحتَ ضغطِ أحد الأصدقاء شاهدتُ الفيلمَ المتقَنَ المتعلّقَ بقصّته، وكالمتوقَّع؛ آلامٌ وآلام!
أمَّا في يوميّات ومذكّرات الاحتضار، فلقد كان الروائي الراحل/ حسين البرغوثي يدوّن يوميّات رحيلهِ بعد تشخيصه بالسرطان بسُخريَّةٍ مُؤلمة في كتابه (سأكونُ بين اللوز)، وممّا قال: «السرطانُ رسَّام، يجعلُ التفاصيلَ الصغيرةَ مرئيَّةً، والحياةُ نفسُها فنٌّ، وما هي إن لم تكنْ فنّاً؟!»، والأمر كذلك بالنسبة للأديبة (رضوى عاشور) حيثُ دوّنتْ أيَّامها في سيرتها (أثقل من رضوى) حينَ شُخِّصَت بسرطان المخّ!
أمَّا يوميَّاتُ صاحبنا محمّد فألمٌ آخرُ تمامًا!
يكفي، بل يزيد عن الآلام السابقة كلّها، ألمٌ فريدٌ وموجِعٌ جدًا، وبقلمٍ غايةٍ في السلاسة والعذوبة!
إنّه أحدُ الكتُب التي لا تحتملُ التقسيط القرائيّ، وقليلٌ هي تلك الكتب، بل يُجبركَ على أن تسابِقَ وقتَك لالتهامهِ دَفعةً واحدة، فتفرّ من بيتك إن كان صاخِبًا لمكتبك أو لمقهاك المفضّل لتكملَ قراءته -واحترسْ من عيونِ الآخرين أن يُبصِروا دمعتَك!-، وأجزِمُ لو أنَّه كتبه باللغة الإنجليزيّة لكان صداه أكبرَ وأوسع، ولكنّه آثرَ أن يكتبَه لبني قومه.
أعترفُ أنَّ دموعي لم تنهمرْ أثناءَ قراءةِ كتابٍ من زمنٍ طويل، لكنَّ محمّدًا جعلها تنهال مرَّةً أو مرّتين، في كلّ مرّة أعدّلُ جلستي، أشعرُ بآلامٍ جسديّةٍ حقيقيّة، تتقلّصُ أمعائي من أوصافه! حقّاً.. أجبرني على أن أشاركَه الألم! لن أقتبِسُ هنا أيًّا من نصوصِ تنهُّداته وآلامه الموجِعة، وهي كثيرةٌ، أتريدُني مثلاً أن أحشوَ هذه المراجعة بنصوصٍ مؤلمةٍ؛ كقوله: «أجثو على ركبتي أمامَ المرحاض، وأتقيَّأُ روحي!» كلّا، لن أجبركَ على قراءة الألم، هذا اختيارُك الشخصيّ إن أردتَ قراءة الكتاب.
أحببتُ في الكتاب أنّ تفاعلي معه لم يكنْ تفاعلاً عاطفيًا فحسب، أيْ لم يكنْ فقط من باب الشعور بالألم والمواساة الإنسانيَّة لرجلٍ يصارعُ الموتَ ويعارِكُ مرضًا عُضالاً، كلّا، بل كان تفاعُلاً عاطفيًّا وفكريًّا في آن، وما ذاك إلاّ لأنَّه كُتِبَ بقلمِ كاتبٍ حقيقيّ! الكاتبُ الذي يجعلُك تبكي وتضحك، تتفّق وتختلف، يُعبّر عن رأيه بأبين عبارة وأقصر إشارة، لديه القدرة الهائلة على الشعور بك كقارئ، وليس ذلك (الناسخ) للحروف والكلمات على الورق!
ومما جمَّل الكتابَ أيضًا؛ أنَّه ليسَ كتابَ رثاءٍ للذاتِ ولطميّاتٍ وداعيَّة، ولكنَّه كتابُ حياةٍ على سرير الموت! كتابٌ عن الأمل والحُبّ، والأسرة والصداقة، والخيبات والمروءات، والمشاريع والطموح، والأدب والأدباء، والفلسفة والفنون، والكُتب والفِكر، والزراعة وانتظار الحصاد!
إنَّه يبعثُ فيك المعنى النبيل، والقيمة الحقيقيّة للعيش، فقد قال: «لا أعرفُ المعنى في ألمي، ولكنني أعرف المعنى في مقاومته».
من حقّي أن أعتبرَ الشابّ (د. محمد أبو الغيط، الفتى الصعيديّ) مُتفلسِفًا وليس مجرّدَ طبيبٍ أو صحفيّ استقصائيّ، شابٌ من ألمعِ شبابِ العَرَب؛ ذو طموحٍ لا ينضب، وذكاءٍ خارق، وملَكَةٍ حاضرة، ونباهةٍ وافرة، ومروءةٍ خالدة!
لقد تعاطى مع المرض الذي ألمّ به بإنسانيّته العاديّة، وبشريّته الصادقة، كان يتألّمُ ويركضُ ركضًا نحو التعافي؛ لكنَّ المرضَ النادرَ الذي أصابه كان أقوى من شخصيّته المرهفة، وأمرُ الله وقضاؤه لا يُرَدُّ ولا يُغلَب!
شابٌّ في رَيعان ثلاثينيَّته، لديه من الطموح والمشاريع ما يأمَلُ أن يقضي بها سنيَّ عمره بعد انتقاله إلى لندن بصحبة زوجته (إسراء) التي أكثر من الحديثِ عنها بكلّ حُبٍّ ومروءة، يستيقظُ فجأةً ليجدَ (سرطانًا متوحِّشًا) يهجم عليه! إنّه (سرطان المعدة)، كان يأمَلُ وفق التشخيص الطبّي أن يستجيبَ للعلاج الكيماوي والإشعاعي مع استئصال كامل المعدة ثمّ يتعايش مع نمطٍ جديدٍ، ولكنَّ المفاجأة أن يكونَ حالةً للدراسة الطبيّة! حالةٌ مستعصيّةٌ جدًا لا تستجيبُ للعلاج، بل تزدادُ سوءًا يومًا بعد يوم!
تألّمتُ حقًّا حين صدمه الطبيبُ الإنجليزيّ بالتشخيص -بعد استئصال معدته- وقال له بالحرف: «هذه حالةٌ نادرةٌ أن تظهر في عُمرك، وأن تحملَ هذا الشكل غير المعتاد لهذا الورم، أنا تقريبًا لم أشاهد مثلَ هذا في حياتي!».
وَجَمَ قليلاً ثمّ قال بعد صدمة التشخيص: «كان صرحًا من خيالٍ فهوى!» لكأنني أسمعُه يقول هذا الشطرَ بصوتٍ متهدِّجٍ: «كان صرحًا من خيالٍ فهوى»، هنا بدأ يرتّبُ أوراقَه الأخيرة، «… بدأتُ جدّيًا في تحضيرات ما بعد الموت؛ المعاش.. الأموال… كلمات السرّ.. ملكيّة المنزل.. أكّدتُ لإسراء أن تتزوّج بعدي من تشاء، ولا تغرق في دراميّات “أعيش لابني”!».
ثمّ بدأ في تدوين يوميَّات الألم والأمل، المعاناة والرجاء، كان يأملُ كثيرًا أن يتجاوز هذه المحنة ليعودَ ولو بنصفِ إنسان، كان يردّد: «حيٌّ بلا معِدة خيرٌ من ميّتٍ بمعدة!»، كان يأملُ أن يوقّع الكتابَ بنفسه، فيقول: «تتصارعُ داخلي صورتان غائمتان، هل أُراني جالسًا لأوقّع الكتاب وبقربي أبي وأمّي وإسراء، أم أنا غائبٌ وأرى إسراء هي مَن تُطلق الكتاب، بينما صورتي معلّقة في الخلفيّة وعليها شريط الرثاء الأسود!».
دونَّ يوميّاته مع جلسات الكيماوي وآلامها، لقد أشعرني هذا أكثر بكتمان أمّي -حفظها الله- لآلامِ الكيماوي ووخزاته الموجعة حين أصيبت بسرطان الدم الليمفاوي في عام 2017م، وتجرّعت آلام ستّ جُرعاتٍ منفصلةٍ، وقد كانتْ تتصبّر وتتجلّد ولا تبوح بآلامها؛ لأنها تعتقِدُ أنَّ مجرّد التأوّه اعتراضٌ على قدر الله! ثمّ تشافتْ تمامًا والحمد لله.
كتاب (أنا قادمٌ أيها الضوء) ليس تدوينًا للألم فقط إن كنتَ قد تظنّ ذلك، لا، الكتابُ أبعدُ من هذا بكثير، إنه سيرةٌ ذاتيّةٌ من خلال الألم، أو ألمٌ عابرٌ من خلال السيرة الذاتيّة، فلقد طوَّف بنا في حقولٍ كثيرةٍ، إنسانيّة ومعرفيّة، إنّه باحثٌ عن الضوء والنور في زمنٍ يسودُه ظلامٌ عريض، يقول: «تعلّمتُ عبر حياتي -وبالتدريج- البحث عن هذا الجوهر الإنسانيّ، وأن أشعرَ بذلك الضوء الذي يشعّ من الأرواح الطيّبة. أُحِبُّ أن أكون على مقربةٍ من هؤلاء، بينما أهربُ من ذوي الأرواح المظلمة والقلوب الغليظة!… لكمْ هو مُبهِرٌ المدى الذي قد يذهبُ إليه الإنسان في الشرّ أو الخير، في ضوء روحه أو ظلامها!».
«وجدتُني لا أكتبُ يوميّاتِ مريض، بل أكتبُ أحداثًا ومشاعر، ما جرّبتُه وما تعلمتُه، سيرة ذاتية لي ولجيلي أيضًا… أتأمّل في الموت والحياة».
هُنا تحرَّكتْ نفسُه القويّةُ الحبيسةُ في جسده الضعيف المتهالك للرغبةِ في الخلود، فيقول: «أكتبُ لأنّ الكتابةَ هي أثري في الحياة، هي محاولتي لمغالبة الزمنِ والموتِ بأنْ يبقى اسمي أطولَ من عددِ سنوات حياتي التافهة مقارنةً بعُمر الكون الشاسع… هذه صَيْحتي: محمّد أبو الغيط مرَّ من هنا!».
كنتُ أتساءلُ وأنا أقرأ؛ لماذا أشعرُ بقُربٍ شديدٍ من روحِ الكاتب، فإذا بي أكتشِفُ مع الصفحاتِ شيئًا من التشابه! وأعجبُه ما جاء في آخر الكتاب بأننا وُلِدنا في اليومِ نفسِه! «وهكذا جِئتُ أنا إلى الدنيا، وليكتمل الأمرُ دَعَتْ أمّي أن تلدني في الثاني عشر من ربيع الأوّل؛ يوم المولد النبويّ، وقد كان، وُلِدتُ في ذلك اليوم بالضبط»، إلاّ أنّني أسنُّ منه بنحوِ أربعةِ أعوام، لذلك فهو أكتوبريّ المولد وأنا ديسمبريّ، ولا أستطيع أن أخفي أنّني حفيٌّ جدًا بأنّي وُلِدتُ في هذا اليوم أيضًا، ومعلومٌ أنّ أهلَ السِّيَرِ والتاريخ مختلفون في تحديد يوم المولد النبويّ إلاّ أنّ القولَ الأشهرَ أنه الثاني عشر من ربيع الأول، هو قطعًا ليس اصطفاءً، فقد وُلِد في هذا اليوم أخيارٌ وأشرار، ولكنَّ الفألَ والاستبشارَ بهذا التوافق يملأُ قلوبَنا سرورًا وغِبطةً.
وجدتُه كذلك عاشقًا للقراءة والكتابة منذ سنٍّ مبكرٍ جدًا، مُذ كان في المرحلة الابتدائيّة، إنّ تفاصيل أيّامه الدراسيّة تشبه كثيرًا تفاصيل أيّامي الدراسيّة، كان يعتبرُ القراءةَ عملاً جادًّا، فيقول: «القراءة بالنسبة لي ليستْ تسليةً ولا هواية، بل عملٌ بالغ التركيز، لا يصاحبُه أيّ أعمال أو أفكار أخرى، لا أقرأ أبدًا إلاّ بصحبة قلمٍ أو الــ “نوتس” على هاتفي، أسجّل ملاحظات وتعليقاتٍ تصنعُ فهرسًا خاصّاً لي»، حتى في أشدّ أيّامه ألماً كان يأملُ أن يمارسَ نشاطَه المعرفيّ، فيقول: «حاولتُ أن أنتظمَ في كتابة المقالات بجريدة العربيّ الجديد، مُركِّزًا على عروض الكُتب؛ بحيثُ أجبرُ نفسي على قراءة كتابٍ أسبوعيًا على الأقلّ»، وهذا ما ألزمتُ به نفسي منذ عام 2015 بعد أن استقلتُ من الوظيفة الحكوميَّة -والتي كنتُ أجدُ أيَّامَها وقتًا أوسعَ للقراءة- وانتقلتُ للعمل الحرّ الذي قد تكثُر فيه الالتزامات، فأخذتُ على نفسي أن أقرأ كتابًا واحدًا فقط في الأسبوع بشكلٍ متسلسلٍ، وما زاد فهو نافلة، مع النظر خلال أيام الأسبوع في تفاريق الكتب أو البحث الحرّ أو زيارة المكتبات أو الاطلاع على المقالات والمنشورات، وقد وجدتُ لذلك أثرًا طيّبًا.
ملحوظة: لستُ هنا ناقِدًا لأقولَ لمحمّد: ليتَك اختصرتَ بعضَ التفاصيل الطبيّة، فهذه قد تفيد الكثير، لكنّها أشعرتني بشيءٍ من الملل العارض، وليتكَ كذلك لم تستعمل -أحيانًا وبشكلٍ نادر- اللهجة المصريّة المحليّة وإن كان قد استعمل ذلك كتّابٌ كبار، لكن على المصريّين أن لا يفترضوا أنّ كُلّ العربِ قد تخرّجوا على أفلام (عادل إمام) فيفهمون اللهجة المحليّة أو يستملحونها، لا سيّما وأنّ بيانَك الفصيحَ جامعٌ لامع، وبرأيي أنّ الكتابَ كان يُمكنُ أن لا يتجاوز مائتي صفحة، ولكنّه تجاوز الثلاثمائة صفحة، هذا ما جعلني أقيّمه (4.5 / 5) أو (8/ 10) وحقُّه فعلاً أن يكون من أجمل الكتب التي طُبعت عام 2022 إن لم يكن الأجمل!
قبل النهاية:
جميلُ الروحِ ملأ قلبَه بحبِّ الحياة المضيئة، ولكنَّ الحياةَ لم تُلْقِ له بالاً!
وفقًا للتشخيصِ الطبّي، فقد حُدِّد عمرُه المتبقّي ببضعةٍ أشهرٍ وأيّام، لم يفقد الأمل وتعلَّقَ بدعواتِ أمّه التي حكى أنها صاحبةُ تضرُّعٍ ودعواتٍ مستجابة، إلاّ أنّه كان يظنّ أنْ لا شفاءَ له إلاّ بمعجزةٍ إلهيّة، فــ «لو تحقَّقت نجاتي بمعجزةٍ ما، فسأسعى لما بقي من عمري نحوَ ذلك الضوءِ الذي زادت خبرتي به وتقديري له في أيام مرضي، وسأمنحُ ما أستطيع عرفانًا لكوني محظوظًا بزوجةٍ مضيئةٍ، وبأبٍ وأمٍّ مضيئين، وبالكثير من الأصدقاء الذين يطمئِنُني ضوءُهم لحقيقة الخير في الدنيا. ولو وافاني القَدَرُ، ورحلتُ في الوقت الذي قدَّره الأطباء، فإني أرجو أن يكون ما بعد نفقي نورًا وهدوءًا وأمنًا، وأن يكون في هذا الكتاب ما قد يَنْقُبُ ولو ثغرةً واحدةً ليمرَّ منها بعضُ الضوءِ إلى من يقرأ!».
النهاية
[نفوسٌ أرقّ من النسمة، لا تؤذي وإن أوذِيَت]
الكتاب ليسَ روايةً فأحرق عليك أحداثَها، أو فيلمًا فأخبرك بوفاة البطل الذي يندر أن يموت، هذا ليس حَرْقًا.. نعم، لقد مات محمَّد، وعلمَ الناسُ جميعًا بوفاته، وقرأنا الكتابَ باعتباره مذكّرات ميّتٍ بمرض السرطان، وهذا لم يمنعنا من أن نتأثّر بالكتاب أو نتفاعل معه.
قال أثناء الوجع: «اسعَدُوا بكلّ يومٍ طبيعيّ.. كُلّ يومٍ من المعافاة هو إنجازٌ عظيم، حقّاً وصدقًا: (من أصبح آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها)، لا بأس ببعض الملحميّة، لكن لا تفرطوا فيها!».
«بينما أفكّر الآن في اقتراب نهاية عمري، أنظرُ خلفي وأعرفُ جيّدًا أنّي لم أكنْ شخصًا مثاليًا، لديَّ كالجميعِ نقائصُ ومطامعُ ومصالحُ ومخاوِفُ وأهواء، لكنَّ أمورًا قليلةً جيّدةً أسعدُ أني سعيتُ لها طيلةَ عمري، ومنها: ألاّ أسبّب الألم لأيّ شخصٍ بالمفهوم الماديّ أو المعنويّ، وآملُ لو كنتُ قد تسبّبتُ في ذلك لأحدٍ دونَ قصدٍ أن يُسامحني!».
وعن فراق ولده وصغيره الوحيد يحيى:
«كُلَّما فكَّرتُ فيه يتيمًا دمعتْ عيناي!»
«لو كنتُ حقًّا سأفارقُ يحيى، فإنّ مما يعزّيني أن يكون ميراثُه منّي خيرَ أهلٍ، وأجملَ أصدقاء، وطيبَ الذكريات، والأهمّ؛ هو أجملُ وأقوى أُمٍّ: إسراء!».
رحمك الله يا محمّد، لقد مررتَ من هنا، وتركتَ لنا قبسًا من نورٍ نستضيءُ به في الليالي المعتمة!
بعد النهاية:
هذا النوعُ من الكُتُب والمواقف قد يأكلُ من جميلِ آمالنا، ويُنكِّدُ علينا أصفى أوقاتنا، ولكنَّه وَقودٌ فاخِرٌ لباقي أيّامنا، أن نتأمَّل الأوجاعَ والآلامَ والظلمَ باعتدالٍ نفسيٍّ، إذْ لا يُبصِرُ الفرحَ ولا يستلذُّه إلاّ مَن رأى الألمَ وعرَفَه، الألمُ جزءٌ من الإنسانُ، إنّه يضعُنا على محَكٍّ نتجاهلُه، ويكشِفُ لنا الأمورَ على حقائقها، إنّه يُعيدُ لحياتنا التوازن، ولنفوسنا التطامُن، ويُزيلُ عن أرواحنا أتربةَ الغفلة وغُبارَ السنين!
14 / 4 / 2023
هل قرأتَ هذه؟
بائعُ التميس…
وبينما أنا كذلك؛ إذْ بشابٍّ أمريكيٍّ عشرينيٍّ أبيض من أهالي ولاية فلوريدا الأمريكيَّة -وهو يدرِّس الإنجليزيَّة في أحد المعاهد المحليَّة- يقف بجواري راغِبًا -وياللعجبِ- في الفول والتميس، ولا أدري أهذا ...