Logo مدونة مهند المعتبي

نَـظَــافَـــة..

نَـظَــافَـــة..
blog

مهند المعتبي

الأحد يناير 14, 2024

وَاعَدَني صديقٌ “قديمٌ” أنْ نلتقيَ -بعدَ طُولِ عَهْدٍ- في مقهًى مشهور، حضرتُ في الوقت المحدَّد بالثانية، وجدتُ أنَّه -وياللعَجَبِ- قد سبقني وحجزَ الطاولة، كان المقهى مُكْتظًا كالعادة، قَصَدَني النادلُ مباشرةً -وتغمُرُه ابتسامةٌ غيرُ مُصَنَّفة- فطَلَبْتُ قهوةً فقط، ثم قلتُ لصاحبي: وأنت ماذا تشرب؟ ولِمَ لا تَطْلُب؟

فردَّ: للتوّ (شربتُ) كوبَيْنَ من القهوة ولا أرغبُ في افتعالِ معاركَ وصراعاتٍ مع الكافيين قبلَ النوم! فَأدركتُ أنني قد جَلَسْتُ على كُرسيٍّ -ما زال حَارّاً- كان يجلسُ عليه صاحِبٌ له قد واعَدَهُ قبلَ موعدي بنحوِ ساعةٍ! لا يُهِمُّ.. بَادرني بأسلوبه الأخَّاذ بأحاديث الملاطفة والترحيب، والسؤال عن الأحوال، وذِكْرِ قليلٍ من الذكريات القديمة الزكيَّة، كانتْ الذكرياتُ تلوحُ وتَعبِقُ وكأنَّها رائحةُ عُودٍ غير حادٍّ، أو كأنَّها العطرُ الإنجليزيّ “هالفيتي”، كنَّا نضحكُ ونضحك.. ثم أخذ يتنهَّدَ وشرَعَ يتذمَّرُ من سُرْعَةِ تغيُّرِ الناس، وتقلُّبِ أخلاقهم، ومن “نذالة البشر”، كنتُ هذه المرَّةَ -على غير العادة- أُؤثِرُ الاستماعَ على الثرثرة، وأرجِّحُ الإنصاتَ على التفاصُح!

ألقيتُ له سمعي وأرخيتُ أُذُنيَّ مستمتعًا بحديثه الآسر -وهو رَجُلٌ ذو ذكاءٍ وجاهٍ ومال- ثمَّ مالَ فجأةً وبدون انعطافٍ تسلسُليٍّ للحديث عن “النظافة!”.. عن “النزاهة”.. عن “شرفِ الذات”، أحببتُ اختياره لمفردة “النظافة”، وأحببتُ إيقاعَها وجَرْسَها أثناء حديثِه، لقد استعذبتُ استرسالَه حتى لكأني تمنّيتُ أنْ لا ينقضي، لكنَّ قَدَرَ اللحظاتِ الجميلةِ أنْ تتبخَّرَ بسُرعة!

أوشكتْ ساعتُنا على الانقضاء، تفاجأتُ أنَّ قهوتي بَرَدَتْ دونَ أن أشربَها إلاَّ رشفاتٍ قليلةٍ، حينها ذكَرَ لي باختصارٍ شديدٍ لماذا طَلَبَ مقابلتي، أو بمعنًى أدقّ: لماذا استعجلَ في طلب اللقاء -رُغمَ انشغال كُلٍّ منا هذه الأيَّام- وإلاّ فالقصدُ الأوّلُ من اللقاء كما في رسالته هو “الشوقُ وتجديد العهد“!

انتهينا تقريبًا، رآني أُخرِجُ بطاقةَ الصرَّافِ من جيبي، وأُلْمِحُ للنادل، فبادرَ بالحَلِفِ المتكرِّرِ، وأصَرَّ على دَفْعِ الحساب (واللهِ ما تدفع، والله ما يدفع إلاَّ أنا) رُغْمَ أنَّنا نعلمُ أنَّ اللهَ أجلُّ مِنْ أنْ يُتَحالَفَ باسمه عند “الكاشير”، وبينما كان يتأمّلُ الفاتورةَ ويَطلُبُ من النادلِ إحضارَ مكينةِ الدَّفعِ= كنتُ أتأمَّلُ تقاسيمَ وجههِ كتأمُّلِه للفاتورة المنعكسةِ على نظَّاراتِه، كنتُ حقًّا مأخوذًا بحديثه عن “النظافة” ومشدُوهًا بأفكاره، سابِحًا في نهرٍ من النقاءٍ أو على شاطئٍ من الصفاء… ثم تأهَّبَ قَبْلي للانصراف، هامِسًا: “أرجوك، اهتمَّ بالأمر الذي طلبتُه منك”، وحينما قَامَ مُستنِدًا بيديه على الطاولة كاستناد العجائزِ هَالَني ما رأيتُ! حتى تفارقتْ شفتاي من الدهشة، فلقد كان “نِصفُ ثوبِهِ من الأسفل متَّسخًا تمامًا!“، وكأنَّ أحدَ أكوابِ القهوة السابقة قد انسكبَ عليه!

ثم استأذنَ وخرج من المقهى قبلي، وأنا جالِسٌ في مكاني، فارقني.. يمشي مُتَثاقِلاً نحوَ الباب.. يخطُو خُطوةً ويتوقَّفُ أُخرى، يقضِمُ شفتَيْه.. وعينُه لا تُفارقُ جوَّالَه…

هل قرأتَ هذه؟

Bolg-1

عشرة أسبابٍ جعلتني أُدمِنُ القهوةَ الباردةَ، فقد أنقذتني من مآزق!

ثم إنني لطالما كنتُ أسخرُ من ابنتي رِناد وهي تُحضِّرُ كوبها (البارد!) لتقرأَ الروايةَ اليابانيَّة (قبلَ أن تبرُدَ القهوة) لـ (توشيكازو كواغوشي) يا لَصُعوبةِ الاسم! فأقول لها: كيف تبرد قهوتك وهي أصلاً باردة؟! 😊 أرجوك لا تسألني عن الروايةِ....

الأحد يونيو 9, 2024