بائعُ التميس…
مهند المعتبي
الخميس يناير 4, 2024كنتُ واقفًا على دكَّة بائعِ الفول و(التميس) على غير العادة؛ بل استجابةً للطلب الشَّهْريِّ القهريِّ -تقريبًا- الذي يأمرني به أولادي، وإلا فمُذْ نشأتُ طفلاً وبيني وبين التميسِ والبقوليَّات التي تُباع لدى الفوَّال معاركُ ذوقيَّة، ولو أكلتُ منها مرَّةً لضاعَ نهاري كلُّه تثاؤبًا وكَسَلاً!
وبينما أنا كذلك؛ إذْ بشابٍّ أمريكيٍّ عشرينيٍّ أبيض من أهالي ولاية فلوريدا الأمريكيَّة -وهو يدرِّس الإنجليزيَّة في أحد المعاهد المحليَّة- يقف بجواري راغِبًا -وياللعجبِ- في الفول والتميس، ولا أدري أهذا انصهارٌ منه في الثقافة السعوديَّة، أو لعدم وفرة مطاعم إفطارٍ صباحيَّة لدينا متخصِّصة في (البان كيك والوافل)!
طلبَ الأمريكيُّ من الشابِّ الأفغانيِّ الفوَّالِ وجبتَه باللغة الإنجليزيّة، ولم أتعجَّب من فهمِ الأفغانيِّ للأمريكي، فالفَهمُ قد يكون سهلاً لمن لديه مفرداتٌ محدودةٌ لا سيّما إن كان يستصحبُ وسائلَ كثيرةً؛ كالإشارة وتعابير الوجه ونبرة الصوت ونحوها، ولكنَّني تعجَّبتُ من ردِّه عليه!
نعم، لقد ردَّ عليه بائعُ التميس بلغةٍ إنجليزيَّة رصينة، وبلهجة أمريكيَّة قريبةٍ من لهجته، فتملَّكني العجَب! ووقفتُ مشدوهًا، إذْ كيفَ لشابٍّ يتكلَّم الإنجليزيّة بهذا المستوى الرفيع ويكون مجرَّد فوَّال أو بائع تميس في وقتٍ يُبحَثُ فيه في أنحاء العالَم عن المتحدِّثين لهذه اللغة بطلاقةٍ، لمشاريع الترجمة والتوظيف والتسويق وغيرها.. مع استصحاب الوضع التعليميِّ المتدنّي لدولة أفغانستان.. وأنا أعرفه منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، وأراه يصلي معنا في المسجد، ولم يخطر ببالي يومًا أنه قد دَخَلَ مدرسةً أصلاً في حياتِه!
وبعد أن ذهبَ الأمريكيُّ تحدَّثتُ مع بائع التميس هذا، وسألتُه: كيف تعلمتَ اللغة الإنجليزية؟ وكيف تمرَّستَ على المحادثة بهذه الطلاقة وأتقنتَ اللهجةَ كما يتحدّثها أهلُها؟ هل سافرتَ خارجَ أفغانستان للتعلّم؟
فقال: لا، ولكنْ أنا أحملُ شهادةَ الماستر في الحاسب الآلي، والحمد لله، وتعلّمتُ الإنجليزيّة وغيرها من العلوم تعلُّمًا ذاتيًا، وتمنيَّتُ لو واصلتُ الدراسةَ للحصول على الدكتوراه، ولكن ألجأتني ظروفي للمجيء هنا للعملِ فوَّالاً وبائعَ تميس!
ثمّ تحدّثنا سويعةً في قضايا شتّى، فإذا له فيها اطلاعٌ ونظرٌ جيّد.. شابٌّ تتلألأ عيناه طموحًا، ويُشرِقُ وجهُه تفاؤلاً وتطلُّعًا لبناء مستقبلٍ يتناغمُ مع إمكانيّاته..
وفي الواقعِ، قد قابلتُ أمثالَه كثيرًا من جنسيّاتٍ مختلفة، لا ينقصهم الطموح ولا القدرات ولا المعارف ولا الاستعداد الفطريّ، ولكنّها الفروق الاجتماعيَّة، وظروف البُلدان.. فما أعظمَ غُرورَنا وما أقبحَ عنصريّتنا إذا كنّا نظنُّ -مجرّدَ الظنِّ- حين نرى هؤلاء (البؤساء!) أننا خيرٌ منهم، أو أذكى، أو أحكم، أو أعزر معرفةً.. أو أنَّ الله اصطفانا عليهم، فزادنا بسطةً في الخيرات والأُعطيات!
نحن -في كثيرٍ من أحوالنا- مجرّدُ نتاجٍ للظروف المواتية، ولو كنا مكانَهم أو أتيح لكثيرٍ منهم ما أُتيحَ لنا= لربّما كنّا لهم خادمين وعاملين وسائقين، وكانوا سادةً علينا، ولله في خلقه شؤون!
وفي هذا السياق يقول د. عليّ الوردي: (… وربما كانت العوامل الاجتماعيَّة أهمّ في نوال النجاح من العوامل النفسيّة أحيانًا. فقد يُولد الإنسانُ في بيتٍ فقيرٍ بائسٍ لا حول له ولا جاه، فيندفن في وحولِ بيئته المحدودة؛ إذْ لا يستطيع رُقِيًّا مهما كان موهوبًا بأسباب التفوّق أو العبقريَّة)! [خوارق اللاشعور/ ص213]
اللهمَّ أوزعنا شكرَ نعمتَك.
16 / 3 / 1439 هـ
4/ 12/ 2017 م
هل قرأتَ هذه؟
لم تعلمني الحياةُ شيئًا!.. (البندقيَّة 2017)
هذا الاغترابُ الذي شعرتُ به في أزقَّة البندقيّة جعلني أميلُ للحياةِ مُعاتِبًا (وأنا المعتبيّ!)، وقلتُ لها بصوتٍ خافتٍ متهدِّج: (قد علَّمتِ -أيتُها الحياةُ- أناسًا دروسًا مجَّانيّةً وبخلتِ عليَّ بدرسٍ واحدٍ ولو مدفوعَ الثمن!)